سخونة الأحداث في بلاد الشام واليمن يبدو أنها تعمل على إذابة الجليد بين السعودية وإيران رويدا رويدا، وذلك إثر تداخل مصالح البلدين في تلك الساحات التي تشهد تطورات ملتهبة خرجت عن السيطرة وباتت تهدد الجميع.
وخلال الأيام الأخيرة اهتمت الصحف الفرنسية بالتصريحات المتبادلة لمسؤولي البلدين الداعية إلى التقارب والتفاهم وتبادل الزيارات فيما بينهما.
وكتبت صحيفة "ليبرتي" الجزائرية بنسختها الفرنسية مقالا بعنوان "التقارب بين إيران والسعودية" للكاتب جمل بوتا أرجع أسباب هذا التقارب إلى توصل البلدين لضرورة القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وفتح صفحة جديدة في الأزمة السورية.
ونقلت الصحيفة تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني التي عبر فيها عن رغبة بلاده في تحسين علاقاتها مع المملكة العربية السعودية، وذلك بعد لقاء جمع في نيويورك بين وزيري خارجيتي البلدين، واعتبره مراقبون حدثا نوعيا باعتبار ما بين الدولتين من تنافس شديد وخلافات عميقة بشأن العديد من الملفّات.
وكان من الملاحظ أن انعقاد هذا اللقاء بين الوزيرين في نيويورك قد جاء عشية سقوط صنعاء بيد الحوثيين الشيعة ما أعطى انطباعا بأن هناك صفقة ما تم بموجبها "تسليم" صنعاء، وكان قد سبق سيطرة الحوثيين عليها ببضعة أسابيع أيضا تسريبات حول صفقة سعودية إيرانية بصيغة صنعاء مقابل دمشق.
ويبدد هذا التقارب الخصومة الحادة بين الجانبين والمستمرة منذ عقود طويلة، بنت فيها السعودية استراتيجيتها على أساس أن إيران تشكل خطرا وجوديا عليها يجب مواجهته بالقوة، وعبر العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز عن هذا الخطر بمطالبته بقطع رأس الأفعى الإيراني كشرط لضمان أمن الخليج مثلما جاء في وثائق ويكيليكس، كما دفعت السعودية أكثر من 130 مليار دولار لشراء أسلحة أمريكية وأوروبية حديثة على اعتبار أن الحرب ضد إيران حتمية، فما هي الأسباب التي غيرت العقيدة السعودية تجاه إيران الشيعية بهذه السرعة؟
الدولة الإسلامية تحدث الفرق
التقدم الكبير والسريع الذي حققه تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق وسوريا، وتهديداته التي طالت عدداً من دول المنطقة جاءت إيران والسعودية في مقدمتها، مما وحد هدف البلدين في الرغبة في القضاء على التنظيم الذي ينمو بشكل يومي، مما عمل على تقريب وجهات نظر السعودية وإيران، وحتّم التنسيق بينهما رغم الخلافات الكثيرة.
فالخطر الذي يمثله تنظيم "داعش" على النظام السعودي لا يخفى على أحد، كما لا يخفي التنظيم عداوته لهذا الناظم الذي يصفه بالمرتد لولائه للغرب "الكافر" واستعانته به في مقاتلة المسلمين، إضافة إلى استقطاب "داعش" لمجموعة كبيرة من الشباب والدعاة من داخل السعودية، ونظرة العديد من شباب العالم الإسلامي إلى التنظيم بأنه يحقق حلم المسلمين في إقامة دولة الخلافة بغض النظر عن الأخطاء التي وقع فيها والتي تبدو هينة إذا ما قورن بغيره.
في الوقت نفسه فإن إيران معنية أكثر من السعودية في الفترة الحالية باحتواء خطر "داعش"، وذلك راجع أساساً لخروج "داعش" عن سيطرة النظام السوري، ولسقوط جيش نظام نوري المالكي في أجزاء مهمة من العراق. وكلا النظامين مدعومين من طهران ويحققان المصالح الإيرانية في المنطقة، كما أنه أول من كسر الهلال الشيعي بشكل عملي وغير خريطة المنطقة واقترب كثيرا من الحدود الإيرانية، بحسب صحيفة "لوريان لوجور" الفرنسية.
وحتى وقت قريب كان نظام بشار الأسد يستفيد من محاربة "داعش" للثوار الراغبين في إسقاطه، وهو ما كان يروق لإيران التي كانت صامتة عن جرائم "داعش" في سوريا. إلا أن وصول قوات "داعش" إلى العراق جعل إيران تبحث عن شركاء في المنطقة يساهمون في الحد من خطر "داعش"، وتأتي السعودية في مقدمة هؤلاء الشركاء.
استفادة إيران من التقارب
كما كانت إيران أسرع تحركا وأكثر انتشارا خلال فترة الخصومة، فيبدو أنها ستكون الأكثر استفادة من التقارب مع السعودية أيضا، فالرغبة في الحوار والتفاهم لا تعني الرغبة في ردم الهوة بين الطرفين بشكل كامل، لأن طبيعة الصراع السعودي الإيراني ترتبط بمعايير جيوسياسية ومذهبية وتاريخية، وليست فقط ناتجة عن غياب الحوار بين الطرفين.
أيضا فإن الإمكانات المتشابهة بين السعودية وإيران تشحذان خلافاتهما بشكل أو بآخر، فكلا الدولتين لديهما ثروة نفطية ضخمة، وحكومة دينية تتوق للتفوق على الأخرى من حيث كونها قدوة للعالم الإسلامي وهو ما تسبب في وضع السعودية السنية في خصومة طويلة مع إيران الشيعية منذ عام 1979.
كما أن إيران في الفترة الأخيرة، تسعى منذ انتخاب "حسن روحاني" في العام الماضي، لتقليل عزلتها وتحسين اقتصادها والاعتراف الدولي ببرنامجها النووي وهذا بالطبع يمر عبر تعزيز علاقات طهران مع دول الخليج الأخرى وعلى رأسها السعودية.
ولذلك تبدو السعودية أنها تقدم على التقارب مع إيران بحالة من انعدام الثقة الشديدة، وبحالة من الاضطرار مدفوعة إليها بزيادة التهديدات التي تحيط بها وأيادي إيران التي امتدت في كل الملفات التي تشغل بال السعوديين الذين يعلمون تمام العلم أن وزير الخارجية "جواد ظريف" أو حتى "حسن روحاني" لا يمتلكان من الأمر الكثير، لأن مقاليد القضايا الإقليمية في يد نخبة الحرس الثوري الإيراني ومرشد الثورة الإيرانية.