مع رحيل الملك عبد الله، كلّ شيء تمّ لإثبات أنّ العائلة المالكة قويّة وموحّدة حول القيادة الجديدة؛ إذ نُقلت السلطة بلا تردّد في الآجال المحدّدة وفقًا للتقاليد المحلية، إلّا أنّ بعض الأخطاء الطفيفة تشير إلى أنّ الصراع بين الفصائل داخل العائلة أخذ بعدًا جديدًا؛ إذ منذ توليه السلطة أزاح الملك سلمان -من بين عدّة أشخاص- خالد التويجري أكثر المتعاونين مع سلفه.
وعيّن أفرادًا من فصيله بما في ذلك ولي ولي العهد وزيرًا للدفاع ورئيسًا للديوان الملكي. ولئن بدا هذا التصرّف تافهًا، فإنّه ينطوي على تغيير مزدوج في الحالة السعودية: تعزيز فصيل على حساب الآخرين والصعود القوي لأمراء من الجيل الثالث لآل سعود، وبعيدًا عن تسوية قضية الخلافة الشائكة وتوزيع السلطات، قد يفاقم هذا الترتيب الجديد التوترات داخل الأسرة الحاكمة وخصوصًا مع اقتراب الانتقال بين الأجيال. ويحتاج رفع النقاب عن التحديات الضخمة حول مسألة الخلافة إدراج هذه الظاهرة في التاريخ السعودي على المدى الطويل.
خط خلافة يسير من أخ إلى أخ، الخطيئة الأصلية
مشكلة الخلافة هي كعب أخيل آل سعود منذ القرن التاسع عشر، ويعود هذا بالأساس إلى قاعدة الخلافة من أخ إلى أخ الّتي اعتمدوها ووفقًا لهذه الطريقة الأفقية في انتقال السلطة -المنتشرة على نطاق واسع في العالم الإسلامي وغيره- جميع الإخوة في الأسرة الحاكمة هم أصحاب سلطة سيادية، والحظّ وحده من يقرّر من يصل إلى الحكم؛ وهو ما يسبّب دائمًا أزمات في الخلافة لاسيّما خلال التحوّلات بين الأجيال؛ إذ يسعى كل متنافس في الواقع إلى احتكار السلطة وإحالتها إلى ذرّيته، الّذين بدورهم يعيدون إنتاج النمط نفسه تقريبًا، وتتسبّب الأزمات المتكرّرة في إضعاف الجماعة المهيمنة وتشجّع على التدخّل الأجنبي، ويمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار الدولة كما هو واضح بشكل جيّد في حالة السعودية.
أنهى صعود عبد الله إلى العرش (2005-2015) التسوية المؤقتة مع السديريين، وسمح بالصراعات بالظهور من جديد؛ إذ استخدم الملك الجديد جميع الموارد المتاحة في محاولة لكسر احتكار منافسيه، وبالتالي حافظ على النظام متعدّد الهيمنة؛ فأسسّ مثلًا في 2006، هيئة البيعة لتعيين الملوك المستقبليين للبلاد، وكان الهدف الرئيس منها منع وصول سديري آخر إلى السلطة بعد ولي العهد الأمير سلطان، لاسيّما وأنّه كان مريضًا آنذاك. لكن، مناورات عبد الله فشلت؛ بسبب القوّة الضاربة لإخوته غير الأشقّاء وحلفائهم (يسيطرون مثلًا على وزارتي الدفاع والداخلية وأهم محافظات المملكة ووسائل الإعلام الرئيسة) واضطرّ الملك -متجاوزًا هيئة البيعة- تعيين نايف -الرجل القوي في فصيل السديريين- كنائب ثانٍ لرئيس الوزراء في 2009، أي وريث العرش المستقبلي. وأصبح هذا أمرًا واقعًا أمام هيئة البيعة.
يبدو أنّ الوفاة المتتالية لسلطان ونايف في 2011 و2012، أعطت الأمل لعبد الله حتى وإن أصبح سديري آخر -سلمان- وليًا للعهد. وقامر مرّة أخرى: إنشاء وظيفة ولي ولي العهد وعيّن فيها أخاه الأصغر غير الشقيق مقرن (ليس سديريًا)؛ وهناك هدفان لهذه العملية على الأقل: تجنّب وصول السديريين إلى العرش، وتأخير الانتقال بين الأجيال؛ ممّا يسمح لأبنائه بالاستعداد جيّدًا، ومن هذا المنظور عيّن ابنه متعب وزيرًا للحرس الوطني واثنين من أبنائه حاكمين لمحافظتين مهمّتين.
الانتقال مع كلّ المخاطر
عبد الله ليس الوحيد الّذي دفع بنسله إلى الواجهة؛ إذ منذ سنوات عديدة يسيطر أمراء من الجيل الثالث على مناصب مهمّة، وقد تسارعت الأمور بعد 2011 لأسباب واضحة. ويبدو أنّ الانتقال بين الأجيال -ذا المعالم غير الواضحة- يُرسم الآن. ولكن الغيرونتوقراطية [حكم الشيوخ] قد تستمرّ أكثر؛ باعتبار أن يوم 23 يناير 2015 توفّي الملك عبد الله عن عمر يناهز الـ 94 عامًا وخلفه سلمان ذو الـ 81 عامًا وولي عهده مقرن ذو 72 عامًا؛ وبالتالي لنا أن نتخيل إذا ما حكم هذان لعهدين طويلين بما فيهما الكفاية، سيصل المتنافسون من الجيل الثالث (الآن معظمهم في الخمسينيات والستينيات) إلى الفئة العمرية نفسها. وهكذا يمكن للحلقة الغيرونتوقراطية اللعينة أن تستمرّ بلا انقطاع طبيعي أو محدث، والّذي يبدو ضروريًا على نحو متزايد من أجل مواجهة التحديّات الداخلية والإقليمية.
بعد ساعات من تنصيبه، عيّن سلمان ابن أخيه والرجل القويّ في النظام محمد بن نايف (55 عامًا) وليًا لولي العهد وابنه محمد بن سلمان (35 عامًا) وزيرًا للدفاع ورئيسا للديوان الملكي. وتعطي هذه التعيينات رؤية عن التحوّل الجاري ورغبة السديريين في احتكار السلطة في مواجهة معارضة الفصائل الّتي رغم ضعفها لا تزال تحافظ على قوّة مزعجة ذات أهمية.
وتبدو العملية الّتي بدأها سلمان مؤلمة، خصوصًا أن الصراعات قد بدأت بالفعل داخل الفصيل السديري؛ ولذلك لن يتورع عن طرد أبناء أخيه الشقيق من وزارة الدفاع، من أجل تسهيل المهمّة لابنه الّذي يمتلك الآن الوسائل الضرورية لمنافسة ابن عمّه محمد بن نايف، ويبدو أن الصراع بين هذين الرجلين سيكون طويلًا وشاقًّا، فلئن امتلك بن نايف الخبرة وشبكة العلاقات، فإن صغير النظام لديه ميزة العمر. وكلّما تأخر الانتقال بين الأجيال على رأس المملكة، كلّما تعزّزت فرصة بن سلمان في الحكم يومًا ما.
أيًّا كانت السيناريوهات، تبقى مسألة الخلافة على المدى المتوسّط محلّ خلاف داخل آل سعود، ومن المرجح أن تكون النافذة الأساسية من أجل فرصة في التغيير، وهذا ينطوي بالضرورة على إضعاف النظام متعدّد الهيمنة -المكلف على جميع المستويات- أو القضاء عليه، ووضع نظام الباكورة في الخلافة. وبهذا الثمن قد تواجه المملكة العربية السعودية المطالب الاجتماعية والسياسية الداخلية ومسؤولياتها الإقليمية.