أسفرت الانتخابات البرلمانية التركية التي جرت الأحد (6|7) بين نحو عشرين حزبا سياسيا عن خريطة حزبية سياسية جديدة في تركيا جاءت على حساب حزب العدالة والتنمية الحاكم. فما هي ملامح هذه الخريطة الحزبية، ولماذا تراجع الحزب الحاكم، وما هي خياراته وسيناريوهات تشكيل الحكومة التركية، وما هي تداعيات هذه الانتخابات داخليا وخارجيا وخاصة على الواقع العربي؟
الخريطة الحزبية الجديدة
انجلى غبار الانتخابات على خريطة حزبية مختلفة في تركيا، تراجع فيها العدالة بنحو 9% ذهبت إلى حزب الشعوب الكردي ب80 مقعدا، والحركة القومية بزيادة 27 مقعدا عن الانتخابات السابقة ليصبح 80 مقعدا أيضا. أما حزب الشعب الجمهوري فقد تراجع بنحو 1% من الأصوات أفقدته 3 مقاعد، في حين فشلت بقية الأحزاب التركية في اجتياز مرحلة الحسم المحددة بـ10% من أصوات الناخبين. (المقارنة هنا مع الانتخابات البرلمانية عام 2011).
تفسير تراجع العدالة والتنمية
هناك العديد من التفسيرات لهذا التراجع، ولكن السبب الرئيس هو دخول حزب الشعوب الانتخابات، فذهب الصوت الكردي الذي كان يذهب للعدالة لحزب الشعوب. وهذا سلوك طبيعي كمن يعطي الأولوية لنفسه ثم للآخرين ضمن ترتيب إولويات تقوم على اعتبارات ومحددات سلوكية عديدة. ولكن المرجح، أن تراجع العدالة والتنمية لا يعبر عن تغيير في المزاج السياسي للناخب التركي بسبب استيائه مثلا من سلوك الحزب سياسيا أو اقتصاديا، وإنما تغلبت الاعتبارات القومية.
دليل عدم تغيير المزاج السياسي التركي، أن حزب الشعب الجمهوري الذي وعد بإعادة السوريين لبلادهم وتطبيع العلاقات مع الأنظمة المستبدة في المنطقة هو خسارة الحزب 3 مقاعد في هذه الانتخابات. لذلك لا يمكن اعتبار دعم حزب العدالة والتنمية للربيع العربي وخاصة الثورة السورية، سبب مؤثر أو حاسم بهذا التراجع، ولكنه قد يكون سببا في ترجيح الأكراد لحزبهم من جهة، وربما انتقاما من تقاعس تركيا عسكريا في مواجهة داعش في كوباني أواخر العام الماضي وبدايات هذه السنة.
إذا صح أن هناك تغيير في مزاج الناخب التركي فهذا يعني: أن الأتراك يريدون للعدالة أن يدير لا أن يحكم ويحقق لهم "خدمات بلدية" من جهة، ومن جهة ثانية يدفع "العدالة والتنمية" انطباع، "أن أردوغان هو العدالة والتنمية وأن العدالة والتنمية هو أردوغان". وفي هذه الحالة، على الحزب ألا يقبل بهذه المعادلة، فإما أن "يدير ويحكم" أو "لا يدير ولا يحكم"، وعليه أن يلوح للناخب التركي بذلك، فإذا خشي الناخب خسارة الإدارة المحلية الجيدة للعدالة فقد يعود لانتخاب العدالة مجددا، خاصة أن فوز الشعوب سيكون تأثيره محدودا على الشعب التركي وسيقتصر على الأكراد في أحسن الأحوال وفي ظروف معينة، أما نجاح العدالة فهو فائدة لجميع تركيا ويجب توضيح هذه المسألة للناخب التركي.
أحمد داود أوغلو رغم شخصيته السياسية الكبيرة إلا أن الناخب التركي لم يتعرف عليه جيدا كرئيس وزراء صاحب قرار، خاصة أن فترة ولايته كرئيس وزراء امتازت بتراجع الاقتصاد، كما تم تسويق الانتقال للنظام الرئاسي. فالناخبون الموالون لأردوغان اعتقدوا أنهم "قاموا بالواجب" عندما منحوا صوتهم لأردوغان في انتخابات الرئاسة، وعندما علم الناخبون أن نظام الحكم سيصبح رئاسيا تراجع لديه الاهتمام بالانتخابات البرلمانية. وقد يكون عدم معرفة الشعب التركي بمسألة النظام البرلماني والرئاسي جيدا سبب في تراجع العدالة والتنمية. كان الأولى للحزب أن يمرر الانتخابات دون تشويش بهذه المسألة ثم بعد فوزه يطرحها للاستفتاء الشعبي حتى ولو فاز بنسبة تسمح له بتعديل الدستور برلمانيا.
أما مدى تأثير الشخصيات التي اختارها على قوائمه، فليس معروفا بعد إن كان لها دور في تراجع فوزه في حال لم يوفق باختيار القوائم.
اعتبارات قومية لا اقتصادية..
البعض رأى أن تحسن الاقتصاد في العقد الأخير لم يكن له تأثير على الناخب التركي، أي أن هذا التحسن لم يكن دافعا للناخب التركي لإعادة انتخاب الحزب صاحب النمو والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولكن ومن جهة أخرى، فالشعب التركي أيضا لم ينظر لتراجع سعر الليرة التركية في الشهور السبعة الأخيرة بصورة حادة، ولم يبنِ تأييده لحزب العدالة والتنمية أو العزوف عن تأييده بسبب تراجع سعر عملته. مجددا، الناخب التركي أعطى صوته لحزب الشعوب لاعتبارات قومية لا سياسية ولا اقتصادية أيضا.
دليل غلبة الاعتبارات القومية في هذه الانتخابات، هو أن حزب الحركة القومية زاد مقابل 27 مقعدا عن الانتخابات السابقة وذلك كرد فعل على دخول حزب الشعوب للانتخابات، فاستشعر القوميون الخطر فاستنفروا لمواجهة الحزب الكردي.
خيارات "العدالة والتنمية"
هناك العديد من الخيارات أمام حزب العدالة والتنمية للتعامل مع الواقع السياسي والبرلماني الجديد، وغالبيتها غير مريحة للحزب، ولكن قد يكون أمامه بعض الخيارات، من قبيل الدخول بإئتلاف مع حزب الشعب الجمهوري لمدة محددة على الأقل، إذا رفض حزب الشعوب الإئتلاف، ولو كان الثمن تجميد عملية السلام مع الأكراد، وعندها سيكون على حزب الشعوب البحث عن حكومة تقيم معه السلام.
في حال قيام حكومة ليست مع حزب الشعوب، فعلى مفاوضات أردوغان مع الأكراد أن تتضمن ترتيبات سياسية معينة تمنع الصورة الحالية.
وفي كل الأحوال، فلا ينصح بتحول العدالة لحزب معارضة والخروج من الحكومة، لأن فترة قصيرة من حكم هذه الأحزاب كفيل بتغيير وجه تركيا داخليا وخارجيا. لذلك، لا بد من حكومة إئتلافية بأي ثمن ولو لمدة قصيرة يتحسن فيها الاقتصاد ويرى فيها الأتراك من هو أحمد داود إن استمر في منصبه، إذ من المناسب بعد هذا التراجع تغيير قيادة حزب العدالة والتنمية بصورة جوهرية، ثم تجري انتخابات مبكرة كأحد خيارات الحزب.
سيناريوهات تشكيل الحكومة
أصبح بحكم الواقع أنه لا حكومة في تركيا دون تشكيل تحالفات سياسية، لكن تناقض التوجهات السياسية بين تلك الأحزاب يجعل ذلك أكثر صعوبة مع تزايد السيناريوهات المحتملة والتي بات يتقدمها إعادة الانتخابات في غضون 45 يوما في حال فشل تشكيل حكومة إئتلافية كما صرح حزب الحركة القومية وأعضاء في حزب العدالة والتنمية بعد ظهور نتائج الانتخابات.
ويرى مرابون، أن رغبة أحزاب المعارضة في إقصاء حزب العدالة والتنمية من الحكم يمكن أن تلعب دوراً في توحيد رؤى المعارضة بالرغم من اختلافاتها الكبيرة وتحيد الخلاف مقابل السلطة.
تاريخياً هناك صراع كبير بين حزب الشعب الجمهوري الذي حصل على المرتبة الثانية بواقع 25% وبين حزب العدالة والتنمية الذي كان ظهوره سبباً في إقصاء الحزب العلماني عن السلطة طول هذه السنوات، ليكون التحالف بينهما بعيداً.
يبقى للعدالة التنمية وجهتان؛ فهناك حزب الحركة القومية التي تعد من أشد المعادين للأكراد تاريخياً؛ بسبب توجهاتها القومية وحصل على قرابة 17%، وهناك حزب الشعوب الديمقراطي الذي صرح أكثر من مرة قبل الانتخابات برفضه التحالف مع العدالة والتنمية وحصل على 13.5%. لكن حسابات الانتخابات والمصالح السياسية يمكن أن تدفع أحد الحزبين للتحالف، أما ثمن هذا التحالف فسيكون كبيراً على العدالة والتنمية، خصوصاً في مسألة عملية السلام والدستور الجديد.
و بناء على تصريحات الأحزاب الثلاث الأخرى، فإن العداء المشترك للحزب الحاكم يمكن أن يساهم في تشكيل "حلف الخاسرين" لإقصاء العدالة والتنمية، ويتحول الحزب إلى المعارضة لأول مرة في تاريخه. لكن يبدو أن مثل هذا التحالف -إن حدث- لن يستمر طويلاً أو على الأقل لن يجلب استقراراً للحياة السياسية التركية بسبب الاختلاف في التوجهات نحو قضايا مصيرية مثل عملية السلام مع الأكراد، والتوجهات الفكرية.
ولكن لا يبدو أن "العدالة والتنمية" سيذهب لمقاعد المعارضة، فقد عبّر رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو بعد الانتخابات بثقته باختيار الشعب التركي داعيا الأحزاب التركية للانضمام إلى جهود حزبه لتعديل الدستور. أما حزب الشعوب الديمقراطي الكردي فقد سارع للإعلان عن رفضه للدخول بإئتلاف مع حزب العدالة والتنمية في موقف وصفه مراقبون "بالانتهازية السياسية" كون السلام الذي يسعى أردوغان لإبرامه مع الأكراد هو ما منحهم الفرصة للدخول للحياة السياسة التركية وعلى حساب العدالة والتنمية كما أوضحت نتائج الانتخابات. فيما لم يعرف حتى الساعة موقف حزب الشعب الجمهوري ثاني أكبر الأحزاب التركية بعد العدالة والتنمية وفاز بـ132 مقعدا من الدخول بإئتلافات أو سيظل في مقاعد المعارضة.
تداعيات الانتخابات داخليا
ليس معروفا على وجه الدقة، إن كان الجيش سيقبل بوجود حزب الشعوب كأهم حزب في الساحة السياسية رغم أنه أصغر الأحزاب ليتحكم في المستقبل السياسي للدولة التركية.
ولا يمكن الجزم كيف يمكن الاستفادة من الجيش في هذه الانتخابات، كونه قد لا يكون متحمسا لأن يلعب حزب الشعوب دورا كبيرا خاصة أنه حارب الجيش طويلا قبل أن يتحول للعمل السياسي. الجيش قد يكون أحد المداخل لإيجاد حل ولكن هذا له خطورته الوجودية ولا يفضل نهائيا اللجوء إليه.
من المتوقع، داخليا أيضا، أن تمر الساحة التركية في تشنج سياسي وعدم استقرار وتراجع في الاقتصاد وسعر الليرة والبورصة وقد يؤثر على السياحة لهذا العام. خاصة أن النظام البرلماني هو المسيطر على تركيا واردوغان ليس له صلاحيات وسيكون هناك نظام حاكم برأسين إذا اتفقت الأحزاب الأخرى على تشكيل حكومة.
تداعيات الانتخابات خارجيا
أولى الانعكاسات الخارجية للانتخابات سيكون اليوم في مؤتمر المعارضة السورية بالقاهرة حيث الإعلان عن تأسيس كيان سياسي جديد مناكف لتركيا وقطر وستجد المعارضة السورية نفسها مضطرة للارتماء في حضن السيسي في حال تثتبت صورة الانتخابات وترتبت عليها سيناريوهات غير مرغوبة.
كما أن خروج العدالة من الحكومة أو الدخول في إئتلاف سوف يعيق أية جهود تركية للتقارب مع السعودية وقد تكون الوجهة مصر. وقد ينعكس سلبا على ملايين العرب المقيمين في تركيا ولا سيما اللاجئين السوريين والعراقيين والمصريين بعد الانقلاب العسكري.