بسط المحلل السياسي والمتخصص في الشؤون الأمريكية محمد المنشاوي خطة أبوظبي التي يجري تنفيذها منذ أكثر من 10 سنوات لتحقيق نفوذ إماراتي على السلطات الأمريكية.
طبيعة النظام الأمريكي
تلعب واشنطن دورا فريدا ومزدوجا في الشؤون العالمية؛ فمن ناحية هي العاصمة الأهم في عالم اليوم، ويحدد موقفُها من أي قضية مواقفَ بقية دول العالم باستثناءات قليلة، إلا أن طبيعتها السياسية وإجراءاتها القانونية تسمح أيضا ببقائها مدينة مفتوحة، يمكن التنافس فيها على التأثير في القرار الأميركي تجاه قضايا عالمية كثيرة، عبر شرعنه ظاهرة اللوبي والعلاقات العامة.
فقد سمح مبدأ الفصل بين السلطات بانتشار مراكز قوى مختلفة (مثل البيت الأبيض، والكونغرس، ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام وغيرها)، وأوجد ذلك بالتالي مساحات واسعة للتأثير على عملية صنع السياسة الخارجية المعقدة، حال فهم طبيعة العاصمة واشنطن وحدود التحرك داخلها.
بداية النفوذ الإماراتي
ولفهم سلوك الإمارات في واشنطن؛ علينا العودة أولا إلى عام 2006 عندما أدركت أبوظبي وزنها الحقيقي حين تعلق الأمر بقضية جادة، وذلك إثر فشل محاولة شركة مجموعة موانئ دبي العالمية شراء حقوق إدارة ستة موانئ أميركية، فخرج أعضاء الكونغرس الجمهوريون والديمقراطيون يعلنون رفضهم الصفقة، إذ لم يكونوا نسُوا بعدُ وجود شابيْن إماراتييْن ضمن الـ19 إرهابيا ممن قاموا بأحداث 11 سبتمبر الإرهابية.
من هنا ظهر رفض تام لنقل حق إدارة الموانئ المذكورة إلى الشركة الإماراتية، ووقف اللوبي الإماراتي عاجزا عن المواجهة أو الرد. ومنذ ذلك الوقت صمّمت أبوظبي على ضرورة الوجود المكثف بواشنطن، وتعاقدت مع عدة شركات لوبي وعلاقات عامة مختلفة، وأدركت أن الدخول المؤثر في واشنطن ينبغي أن يمر عبر البوابة الإسرائيلية.
العتيبة مفتاح خطة النفوذ
وكان تعيين السفير يوسف العتيبة سفيرا للإمارات في واشنطن منتصف 2008 بمثابة البداية الحقيقية للسعي الإماراتي للوجود المؤثر بواشنطن. وبالفعل نجح العتيبة في تأسيس وجود ملموس في واشنطن عبر إستراتيجية مركّبة، لخدمة أهداف أبو ظبي العاجلة والأهداف المتوسطة والطويلة المدى (3-10 سنوات)، واختار العتيبة أهدافا سهلة التحقيق بمعايير واشنطن، وجاء ذلك مع بدء إرهاصات الربيع العربي عام 2011.
ملامح التحرك الإماراتي
انصبّت التحركات الإماراتية داخل واشنطن على اختيار أهداف سهلة التحقيق يمكن تلخيصها كالتالي:
1- إفشال الربيع العربي، والدفع نحو رفض الديمقراطية العربية والحريات والتنوع السياسي.
2- إفشال أي جهود لتحسين العلاقات الأميركية مع إيران.
3- تشويه وشيطنة قوى الإسلام السياسي وخاصة جماعة الإخوان المسلمين في دوائر واشنطن.
4- ادّعاء محاربة التنظيمات الإرهابية والأفكار المتطرفة بالترويج لدور الإمارات المزعوم في مواجهة تمويل الإرهاب والتطرف، والادعاء بإصلاح وتجديد الخطاب الديني.
ليس جدارة استثنائية في العتيبة
وتسمح واشنطن لأي دبلوماسي عربي أو أجنبي بأن يستثمر علاقاته وأمواله للتأثير على موقف نُخَب واشنطن من قضية خارجية إقليمية تهم دولته، وله كذلك الحق في أن يغدق المال والرّشا المقننة لتحقيق أهدافه. إلا أن هذا يجب ألا يجعلك تسيء الفهم فتحاول التأثير في اختيارات الناخب الأميركي، أو أن تلعب دورا مشبوها في الانتخابات وما بعدها؛ وهذا ما قام به يوسف العتيبة وداعموه.
فأوجد العتيبة مجموعة من الحلفاء الذين يتبنون مواقف وسياسات الإمارات ويدافعون عنها، من منطلق تطابق أهدافهم الخاصة مع الأهداف الإماراتية السابق ذكرها، أو نتيجة إيمانهم بأن دولة الإمارات تقوم بهذه الجهود نيابة عنهم. وتكوّنت هذه الشبكة بصورة أساسية من:
- منظمات اللوبي الإسرائيلي المختلفة مثل منظمة "أيباك" وجماعات اليمين المتطرف الأميركي (أقصى يمين الحزب الجمهوري).
- أشخاص من دائرة الرئيس دونالد ترمب أثّروا -بصورة مباشرة- على الرئيس ترمب.
- أشخاص وجماعات معادية لإيران لأسباب مختلفة.
- جماعات وأشخاص يعادون فكرة وتطبيقات الإسلام السياسي.
- عدد غير قليل من أعضاء الكونغرس بمجلسيه (النواب والشيوخ) ومن حزبيه (الديمقراطي والجمهوري)؛ وخاصة من أعضاء لجان فرعية متخصصة تركز على قضايا الأمن القومي.
- وسائل إعلام معروف عنها تبني نفس أهداف الإمارات لأسباب مختلفة، وهي مؤسسات يمينية محافظة مثل محطة "فوكس" الإخبارية وموقع "بريبارت".
أدوات استخدمها العتيبة
وقد استخدم العتيبة مجموعة من الأدوات، منها:
أولا: التعاقد المباشر مع شركات علاقات عامة ذات خبرة ونفوذ في واشنطن، والاعتماد على شركات لوبي مؤثرة.
ثانيا: بناء علاقات جيدة مع مراكز الأبحاث عن طريق:
- تمويل برامج بحثية بصورة مباشرة، وتبني فعاليات وندوات ومؤتمرات في واشنطن وأبوظبي.
- خلق وتمويل وظائف بحثية في بعض المراكز، ودعم وتمويل بعض أعمال التوسع وتجديد المباني، ومن أهم هذه المراكز معهد الشرق الأوسط، ومركز السياسات الدولية والإستراتيجية.
- تأسيس مراكز أبحاث بصورة مباشرة تعمل بالطريقة الأميركية وليس بالطريقة العربية، مثل معهد دول الخليج العربية.
- دعم برنامج بحثي في جامعة جورج واشنطن يختص بمكافحة الراديكالية، والخروج بمبادرات جذابة ترتبط بالأهداف السابقة، منها مبادرات "هداية" و"صواب" لمواجهة التطرف.
علاقة محمد بن زايد وترمب
يمتلك الرئيس ترمب علاقات متشعبة ومعقدة مع محمد بن زايد، وقبل سفره للرياض بأربعة أيام استقبله في البيت الأبيض بعدما ألحّ العتيبة على جاريد كوشنر (صهر ترمب) طالبا اللقاء. واستغرب كثيرون أن يزور المسؤول الإماراتي واشنطن وهو سيلتقي ترمب بعد أيام أربعة في الرياض.
و إذا تأكدت السلطات الأميركية من سعي حكام الإمارات المباشر للحصول على نفوذ لدى البيت الأبيض مقابل تقديم دعم مالي لحملة ترمب الانتخابية خلال 2016، أو أن يكون هناك تنسيق بين أبوظبي وموسكو وحملة ترمب؛ فسيكون من الصعب على واشنطن أن تتجاهل هذا التدخل، ولذلك ستشهد العلاقات الثنائية بين البلدين تدهورا غير مسبوق.