على طرفي نقيض من المسألة الإيرانية، رحبت الإمارات بانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، وهي التي رحبت به عند الوصول إليه. ورغم احتلال إيران لجزرنا الثلاث، فإن المصالح التجارية بين الدولة وطهران هي الأكبر في منظومة دول الخليج. وعايش الاقتصاد الإماراتي "مرحلة العقوبات"، و "مرحلة رفع العقوبات"، وعليه أن يعايش الآن مرحلة "الانسحاب" من الاتفاق النووي، وهي مرحلة قائمة بذاتها، لها ظروفها وسياقاتها التاريخية والموضوعية المختلفة. فما مدى انعكاس ذلك على الإمارات؟
الإمارات ترحب بالاتفاق وترحب بالانسحاب منه
سارعت دولة دولة الإمارات لتأييد قرار الانسحاب. وبحسب بيان صادر عن وزارة الخارجية والتعاون الدولي بعد وقت قصير من خطاب ترامب مساء الثلاثاء (8|5)، رحبت الخارجية "باستراتيجيته في هذا الخصوص".
ومن جهته، خلص أنور قرقاش إلى أن "قرار الرئيس ترامب هو القرار الصحيح"، على حد قوله.
وفيما يشكل امتدادا للموقف الإماراتي، فقد صرح وزير الطاقة سهيل المزروعي، مساء الثلاثاء أيضا: "هدفنا ضمان استقرار أسواق النفط من أجل توفير إمدادات بترولية منتظمة واقتصادية وذات كفاءة للمستهلكين..". وأضاف: أنا واثق من أننا سنواصل القيام بذلك لعقود قادمة".
وقد اعتبر مراقبون أن ذلك تأكيدا رسميا على أن الإمارات سوف تطوق أية تداعيات لقرار ترامب في حال انعكس ارتفاعا على أسعار النفط..
وباستثناء أبوظبي والرياض وتل أبيب، فقد لقي قرار ترامب من دول العالم: الاستهجان والأسف، لما لذلك من خطورة على الأمن والاستقرار في المنطقة.
هذا الأمن والاستقرار هو ما كان مبرر الإمارات في تأييد الاتفاق النووي حتى قبل توقيعه رسميا. ففي نوفمبر 2013 رحب مجلس الوزراء بالاتفاق التمهيدي حول الملف النووي الايراني. وأعرب المجلس عن تطلعه بأن يمثل ذلك خطوة نحو اتفاق دائم يحفظ استقرار المنطقة ويقيها التوتر وخطر الانتشار النووي.
العلاقات الإماراتية الإيرانية قبل الاتفاق
رغم احتلال إيران الجزر الإماراتية منذ عام 1971، إلا أن ذلك لم يمنع "ازدهار" هذه العلاقات اقتصاديا على الأقل. وبحسب مصادر إعلامية، فقد شكلت الإمارات طوق نجاة لإيران، إذ كانت منفذا لتجارتها في ظل العقوبات الغربية التي منعت التعامل مع العديد من شركاتها، و جمدت التحويلات المالية إليها.
وفي يونيو 2014، أكد سفير إيران لدى أبوظبي محمد على فياض، اهتمام الحكومة الإيرانية بتنمية العلاقات الثنائية مع دولة الإمارات؛ مبيناً أن حجم التبادل التجاري بين إيران والإمارات كان 15.7 مليار دولار في عام 2013.
وأوضح السفير فياض لدى لقائه أعضاء وفد تجاري إماراتي بغرفة التجارة الإيرانية في طهران، بأن العلاقات التجارية كانت وماتزال جيدة لاسيما في المجال الاقتصادي.
وأكد السفير ، أن حجم التبادل التجاري بين إيران والإمارات كان 15.7 مليار دولار في عام 2013، فيما كان نحو 17.8مليار دولار في عام 2012، وكان 23 مليار دولار في عام 2011، و20 مليار دولار في عام 2010.
وفيما يمكن تسميته "اقتصاد مرحلة العقوبات" ما بين 2011 إلى 2015، ضربت الإمارات بقرارات العقوبات الأميركية التي تحظر شراء النفط الإيراني، عرض الحائط، حيث أبرمت شركة إينوك صفقات شراء طويلة الأمد حصلت بموجبها على مئات الآلاف من براميل النفط الإيراني يومياً، بحسب موقع "العربي الجديد".
وبفضل الإمارات، ظلت مبيعات إيران من المكثفات خلال سنوات العقوبات تحقق لها أكبر دخل بعد النفط الخام والمنتجات المكررة، حيث كانت دبي هي أكبر مشترٍ .
وعلى الرغم من وجود البديل السعودي، لم تتخلَّ الإمارات عن الخامات الإيرانية، بل رفعت الكميات التي تستوردها من إيران بنحو 20% دفعة واحدة في العام الأول للعقوبات 2012.
ولم تفلح الضغوط الأميركية في إثناء الإمارات عن شراء الخام الإيراني، حتى أن الجيش الأميركي رفض في سبتمبر 2013 تجديد أي من عقوده في الإمارات مع "إينوك" لتموين الطائرات العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها عند إعادة تزويدها بالوقود في دبي، بسبب إصرار الإمارات على شراء الخام الإيراني.
واشتكت السعودية على مدار سنوات من موقف الإمارات الذي حال دون تطويق طهران مالياً بأن وفر لها منفذاً رائعاً لبيع إمدادات النفط الخام الذي يغذي خزانتها العامة، بما في ذلك أنشطتها العسكرية في سورية واليمن والعراق ولبنان.
أيضاً تجاوزت الإمارات، التضييق المالي العالمي على التحويلات المصرفية لإيران، فانتهجت أسلوب مقايضة السلع، أي النفط مقابل أي سلع تطلبها إيران.
وكثيراً ما اتهمت تقارير رسمية أميركية، الكثير من الشركات العاملة في تجارة إعادة التصدير في دبي، بأنها كانت ممراً رئيسياً لعبور بعض المكونات ثنائية الاستخدام المدني-العسكري التي أسهمت في تمكين إيران من مواصلة تطوير برنامجها النووي، في تلميحات صريحة على أن التعاون بين الإمارات وإيران تجاوز في بعض مراحله الحدود التجارية.
العلاقات الإماراتية الإيرانية بعد رفع العقوبات
بصورة إجمالية، ظلت العلاقات الإماراتية الإيرانية مزدهرة بعد الاتفاق النووي رغم استمرار احتلال الجزر، والحرب في اليمن والملف السوري، كما يقول مراقبون.
و قال محلل في شركة "مباشر تريد": "الإمارات ستكون المستفيد الأكبر في معدلات التبادل التجاري بعد رفع العقوبات عن إيران، ونحن نعتقد أن البنوك والمحطات البحرية والخدمات اللوجستية ستستفيد أكثر من باقي القطاعات".
وسرعان ما أعلنت شركة موانئ دبي العالمية بعد شهر على توقيع الاتفاق النووي أنها تجري محادثات للاستثمار في إيران، وقال رئيس مجلس إدارة موانئ دبي سلطان أحمد بن سليم إن: “لدى إيران جسرًا بريًا جيدًا من السكك الحديدية سيرتبط بطريق الحرير بين الصين وأوروبا، والشركة تحتاج إلى دخول السوق الإيرانية في ظل وجود موانئها في الخليج”، كما أعلنت شركة “سيراميك رأس الخيمة” الإماراتية، أنها اشترت 20% من شركة “راك إيران”، لتستحوذ بذلك على جميع أسهم الشركة.
كما اعتبرت الإمارات بمثابة الجسر الذي ستمر من خلاله الاستثمارات الأجنبية إلى إيران، وذلك لأنها تحرص على الاستفادة من علاقتها الاقتصادية مع إيران وتوظيفها بغض النظر عن الخلافات السياسية.
الإمارات تفصل بين الملفات
ظلت السياسة الإماراتية تقوم على الفصل التام بين الملفات السياسية ومختلف الأزمات من جهة، وبين الملف الاقتصادي من جهة ثانية، في الحالة الإيرانية على الأقل. فرغم الحرب التي تشترك فيها الإمارات في اليمن ضد الحوثيين الموالين لإيران، إلا أن أبوظبي تواصل معها العلاقات الاقتصادية.
وقد دفع هذا الوضع، القيادي الحوثي محمد علي الحوثي إلى السخرية من الإمارات في تدوينات عبر حسابه في “تويتر” قائلا : “الإماراتيون يزعمون حصار إيران في اليمن ويتوسلون إيران إبقاء شركاتها في دبي”، على حد قوله.
وفي يناير 2018، كشف تقرير صادر عن هيئة الجمارك الإيرانية، بأن دولة الإمارات جاءت في صدارة الدول التي تقيم علاقات تجارية مع إيران.
وبحسب التقرير، فإن الإمارات استوردت من إيران ما يعادل 4 مليار و458 مليون دولار. كما أن الإمارات صدرّت ما يعادل 6 مليار و656 مليون دولار. أي بحجم تبادل تجاري بينهما يفوق 11 مليار دولار عام 2017.
استمرار الاتفاق النووي أم زواله؟
يلاحظ مراقبون اقتصاديون، أنه منذ الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران، شهد الاقتصاد الإماراتي تراجعا ملحوظا خاصة في التجارة الخارجية والعقارات والاستثمارات العالمية بصفة عامة. ورغم أنه لا يوجد دليل على وجود علاقة بين الاتفاق النووي وهذا التعثر، إلا أن التزامن بينهما يحتاج لمزيد من التدقيق. خاصة أن حجم التبادل التجاري الإمارات وإيران في مرحلة العقوبات وصل إلى 23 مليار دولار في إحدى السنوات، ولكنه اليوم بالكاد يتجاوز 11 مليارا.
فقد سجلت التجارة الخارجية غير النفطية لدولة الإمارات نمواً بنسبة 1% خلال العام 2017 مقارنةً بالعام 2016، حيث كشفت البيانات الإحصائية للهيئة الاتحادية للجمارك ارتفاع الإجمالي العام لحجم التجارة الخارجية غير النفطية للدولة (تجارة مباشرة ومناطق حرة ومستودعات جمركية) خلال 2017 إلى 1.612 تريليون درهم، مقابل 1.599 تريليون درهم 2016، وبزيادة قيمتها 13 مليار درهم. ما يعكس بشكل واضح "ركود" و"عدم نمو" الأداء الاقتصادي للدولة رغم ما تتميز به الدولة من محفزات اقتصادية من جهة، ورغم استحواذها على تشغيل نحو 75 ميناء حول العالم، من جهة ثانية.
وأشارت الهيئة إلى أن قيمة واردات الدولة شهدت تراجعاً 2%، بالغةً حوالي تريليون درهم، مقابل 979 مليار درهم في 2016، دون أن توضح الهيئة أسباب هذا التراجع، رغم استمرار تدفق المقيمين على الدولة.
وعلى الإجمال، يرى مراقبون، أنه سواء بقي الاتفاق النووي أو ألغي، أو زالت العقوبات أو أعيد فرضها، فإن الإمارات ستكون مستفيدة اقتصاديا، ما لم يدخل عاملين يمنعها من ذلك، وهما: رفض إيران التعامل مع الإمارات تجاريا، وقد بدأت مؤشرات ذلك، في لجوء طهران إلى مسقط والدوحة بديلا عن الإمارات. أما العامل الثاني، فيتمثل بتشدد ترامب إزاء من ينتهك العقوبات ضد طهران على خلاف تساهل أوباما، ما يعني أن ازدهار العلاقات الإماراتية الإيرانية اقتصاديا في مرحلة الانسحاب من الاتفاق النووي لا يزال غير مضمون، بحسب مراقبين.
ولكن، إذا كانت الإمارات تفصل بين الملفات، فهل تفعل ذلك إيران أيضا، أم أنها تسعى لتصعيد اعتداءات الحوثي في اليمن وزيادة دعمه بالصواريخ البالستية التي سبق أن هدد الحوثيون استهداف دبي وأبوظبي بها؟! تساؤلات تبقى قائمة إلى جانب تساؤلات أخرى، تستفسر بقوة عن مدى مراعاة ترامب وحلفائه لأمن المنطقة واستقرارها بغض النظر عن السلوك الإيراني المشين في سوريا واليمن وغيرها!