تعكس المدينة نفسها، روحها، هدوءها، نظامها ليس على ساكنيها فحسب، ولكن على أي قادم يدخلها من الوهلة الأولى، أما ذهنية أهلها ونظام مجتمعها، فإنهما يظلان علامة فارقة لا تنسى بالنسبة لأي شخص مر على تلك المدينة أو عاش فيها زمناً.. كنت أتحدث إلى شاب عربي قضى زمناً طويلاً في دبي، وفيها تعلم وكون علاقاته وبنى ذاكرته، كان ولا يزال يعتقد أن دبي حالة إنسانية أكثر من كونها مجرد مدينة عابرة في حياة أي شخص مواطن أو مقيم، سائح أو عابر، وحالة المدينة هذه تدين بكل نتاجها الكبير والجميل لذهنية أهلها، فهم منفتحون جداً ومتصالحون مع أنفسهم ومدينتهم وكل الآخرين القادمين من كل الدنيا؛ لذا فلا يشكل هذا التعدد وحالة الفسيفساء البشرية والثقافية نوعاً من التحدي أو الاستفزاز بقدر ما قاد إلى تحقيق منجز حقيقي على الأرض يتمثل في التناغم والتفاهم الموجودين بين مختلف الناس فيها!
قالت لي صديقة قادمة للتو من بلدها، الذي تطحنه الانقسامات السياسية والجمود السياسي والخلافات والمعادلات التي بلا نهاية، إنها بمجرد تجوالها في مراكز دبي التجارية ومناطقها السياحية الأكثر جذباً للزوار من كل الجنسيات أحست بحالة من الراحة والهدوء على وجوه الناس، والملاحظة الفارقة التي استوقفتها هي أن الناس في الشارع لا يمارسون أي عدوانية على بعضهم بعضاً خاصة أنها قادمة من بلد أبسط ما يمكن أن يرتكب ضدك في الزحام أن يتجاوز عليك السائق، فإذا لم تسمح له انهال عليك بمختلف أنواع السباب والشتائم.. نستطيع أن نقول تجاوزاً إن المدينة في بعض الحالات تعمل على تهذيب أهلها وترفع مستوى ذائقتهم أحياناً!
منذ زمن طويل، كنت أفكر في هذه المسألة، أن الجغرافيا مسؤولة بالفعل عن توجهات الناس ونبوغهم وذائقتهم، وأنه ليس من باب المصادفة البحتة أن يظهر كل هؤلاء الموسيقيين والرسامين العباقرة كبتهوفن وموتسارت وشوبان وهيدج وفان جوخ منالنمسا وسويسرا وهولندا مثلاً، فمن يذهب لهذه البلدان اليوم وحتى منذ أزمنة بعيدة يكتشف مقدار الفن والجمال والطبيعة المتفجرة في هذه البلاد، ويكتشف مدى رقة أهلها وهدوء طباعهم وميلهم الفطري للموسيقى والفن والعمران، ولقد تحدث العلامة ابن خلدون في «المقدمة» كثيراً عن هذه المسألة، فيما يخص تأثير المناخ والجغرافيا على طباع الناس ومزاجهم ونشاطهم وحتى على أخلاقهم!
قد يكون مناخنا قاسياً لأننا بحكم قدرنا الجغرافي ننتمي لمناخ الصحراء القاسي، لكننا تمكنا بالحكمة والذكاء والأصالة والعمل الجاد والحقيقي من تحويل مدن الصحراء القاسية وإنسان الصحراء القاسي وطباع الصحراء الجافة إلى حالة إنسانية مختلفة لا علاقة لها بالقسوة والجفاف والشراسة والصحراء الجامدة، بقدر مالها علاقة برقي الإنسان وتحضره وانفتاحه وتسامحه وتقبله للآخر، وهذا هو بالضبط ما يصنع الفرق بين مدينة وأخرى وبين مجتمع وآخر!.