عائشة سلطان
لا يمكن تجاهل الثقافة أو التأسيس لأي فعل في الحاضر أو للمستقبل بمعزل عن العامل الثقافي، الفكرة الثقافية والمنجز الثقافي، هذا في العموم وفي التنظير، أما في الواقع فالأمر يتجاوز الشعارات وكلام المنابر والمقالات وبعض المثقفين المنتمين الذين لا يملون الطرق على الباب نفسه كل يوم، في الواقع، فإن صورة صديقتي الواقفة بانبهار جلي وساطع أمام برج إيفل وسط العاصمة باريس، أعادت إلى ذاكرتي ملابسات بناء هذا البرج التاريخي الذي ارتبط بحدثين تاريخيين بكل أبعادهما الثقافية العميقة جداً في الذاكرة والذائقة الإنسانية إلى يومنا هذا ولسنوات طوال قادمة.
إن برج إيفل الذي يراه البعض على أنه كتلة من الحديد المتشابك، واعترض عليه الكثيرون من أهالي باريس نفسها عندما أعلن عن بنائه لينصب كمعلم بارز وسط العاصمة، هو في المقام الأول معلم ثقافي بامتياز، يبلغ ارتفاعه 324 متراً، وقد عد في السنة التي بني فيها المبنى الأعلى في العالم حتى عام 1930، يوجد في قلب باريس، في أقصى الشمال الغربي لحديقة شامب-دي-مارس، بالقرب من نهر السين، أنشئ تحديداً بمناسبة المعرض الدولي «إكسبو» باريس 1889 الذي صادف مرور مائة عام على اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789، هكذا خلدت باريس أحد أهم حدثين على مستوى التاريخ البشري (المعرض التجاري العالمي والثورة الفرنسية). حديثنا اليوم عن الثقافة يصب في المجرى ذاته، حيث التاريخ الإنساني نهر عظيم يشق طريقه بإرادة الإنسان الفاعل في الحضارة والبناء الذي لا يمكنه إلا أن يخلد إنسانيته ومنجزاته عبر الثقافة أولاً والثقافة أخيراً، حيث ثبت له بالدليل القاطع الذي لا يقبل الجدل أن الكتابة والرسم والنقوش على الكهوف والمعابد والمسلات والأبراج، والشعر والقصائد والمسرحيات والكتب والمسارح والفلسفة والتماثيل واللوحات الخالدة، وكذلك الأبراج والأسوار والقصور و...
هي ما خلد عظمة العبقرية البشرية، وهي ما بقي رغم الرحيل العظيم لكل العظماء الذين جاؤوا ومضوا، لكن آثارهم ضلت هناك عالقة في مكان ما.
لم يخلد الملوك سوى النتاج الثقافي، ولم يكتب عبقرية رسامي نحاتي عصر النهضة أن تبقى طازجة حتى اليوم إلا عبر أسقف الكاتدرائيات والقصور واللوحات الخالدة في اللوفر وغيره من متاحف العالم، لم يحفظ دافنشي سوى الموناليزا، وفان جوخ سوى عباد الشمس، ومايكل انجلو سوى العشاء الأخير، والثورة الفرنسية ومعرض إكسبو سوى الكتب وبرج إيفل..
إن الحضارة الإنسانية هي معادلة واضحة شديد التعقيد مكوناتها ثلاث: الإنسان والإمكانات المتاحة والزمن، فحين يستغل الإنسان الموارد المتاحة له خلال سيرورة الزمن بجد وعبر منظومة قيم مستقرة وخلاقة تتأسس حضارات حقيقية، الثقافة واحدة من إفرازات الحضارة وهي كما تخلد الجهد الإنساني، فإنها تربط بين الشعوب والأمم وتقرب بينهم، فالإنسان واحد في كل الحضارات مهما تغير لونه ولغته وزمنه، إنه بشر ساع على الدوام للخلود وللعظمة والمجد.
نحن على أبواب «إكسبو 2020» ولعل المنجز الثقافي العظيم هو خير ما تخلد به الإمارات إنجازاتها واسمها وهويتها الإيجابية في سجل الإنسانية، لذا فنحن ننتظر منجزاً ثقافياً عظيماً في الأيام القادمات.